دوره فـي المــعــارك الادبـيــة ‹ معـركـة
الشبـاب والشيـوخ ›
كـان فـي الـنجــف عــدد مـن الشعــراء الـذيـن لـم يحسنـوا
الاقـتــداء بمــن تـقـدمهــم مـن رواد الشعــر الحـديــث. لا وحـتى فـهــم
جـوهــره , ومـا يتضمـنـه مـن معـانـي أو مـفـاهـيـم جـديـدة تعـكس حـالـة
الابـداع الادبــي الـفـنـي , و الصــور الشـعـريــة الجـمـيـلــة الـنابعــة مـن
حـالــة الـتـقـدم فـي العصــر الـذي هــم فـيــه . وأحـسـب أن القـليــل مـن
يـعـلــم بأن الجـعـفــري , كـان أول المسـتـنـكـريــن لـهـذه الطبقــة . وأنـه
مـن اوائــل السـاعـين لـجـمـع الـمـتـحـمـســين لــرأيــه , مـن أبنــاء الـمدرســة
الـحـديـثـة , وضـمـهـم إلـيـه فـي مـواجهــة تـلك الـهـجـمــة مـن الـشيــوخ .
كـان مـن الـذيــن حـمـلـوا عـقـيـدة الــجعـفــري الأسـاتـذة الشـعـراء , السـيد
مـحـمـود الـحبــوبـي, د. عـبـد الـرزاق محـي الـديــن, مـحـمـد جـواد السـودانـي
وغـيـرهــم ..
كان الجـعــفــري يـتـصـدر الـمـجالــس
الأدبــيـة , لا بـل فارس حلـبـاتهــا , لـمـا عـرف عـنـه قـوة الــنـكـتـة
والظـرف الحـاد واللـبـاقـة الحـلــوة .بلـغ من حـدة الـذهـن حـداً , لا يـفـوتـه
مغـزى أي حـديـث يســمـعـه, إلا و يــعـرف قـصـد الـمــتــكـلـم مـنــه . لــم لا
؟ ألــيس هـو حـفـيـد الـشــيـخ جـعـفــر الــكـبـيـر , فارس حـلبـات ‹ معـركـة
الخميس الادبيـة›.. والتي كـان من أبطالهـا الشيـوخ والسادة العـلمـاء الأجـلاء
الكبـار أمـثـال السيـد مهدي بـحـر العلـوم , و محمـد رضـا النحـوي , و احمـد
القـزوينـي , و محمـد رضـا الازري وغـيرهم كـثير 22 ..
فقـد عـرف الجعـفـري فـي الربـع الأول من القـرن المنصـرم , شاب
يعـلو صـوتـه علـى الشيـوخ فـي الحلـبـات . يـفاجـىء رواة الشعـر بملاحظاتـه
وانتـقاداتـه الحادة المـركـزة. يصـادم بعـنـف الـمـتزمـتين . أديــب فحــل , قـلّ
مـن رزق مـواهبـه مــن أخوانـه .واجـه المجـتمـع بقـوى أعتبـاريـة شفعهــا
بالعـلـم والمعـرفــة . فـهـو مـن أسـرة تصـدرت المجالس , وحـكـمـت شـؤون النـاس
فـي الـديـن والـدنـيـا ..
ومـا أن امـتـدّ العصـر الحديـث بـمـفاهـيـمـه
الـجـديـدة , حتى بـرز كأول الحاملـين لـراياتـه والمـنـدفعـين بتيـاره
والمـبشـريـن بالكـثيـر مـن حقـائـقـه التي يعـتـز بهــا. رغـم المقاومـة
العـنيفـة مـن أركـان وأعمــدة أسـرتـه، فـي التصدي لتلك الافكـار. وكان يصمـد
أمامهـا صمـوداً أسطـوريـاً. ويـدلل علـى أراءه بكـل جـرأة وقـوة. كان كالتـرس
الـوحيـد لأصدقائـه الذيـن سانـدوه في الـرأي وتابعـوا معـتـقـداتـه الـجـديــدة ‹
التي كـانـت بـدعـة او هـي بدعـة فـعـلاَ فـي نظـر المتخلـفـين والمتزمـتيـن› ...
يـقــول الأستـاذ جعـفـر الخلـيـلــي الـذي عـاصــر الـجـعـفــري فـي
تلك الفترة, ومـن الـمـطّـلـعــين علـى أنشطتـه الـثـقـافيــة . « بأنـه الـمـحـرك
الـرئيـسـي والـنـاشـط الأول فـي بـث روح التـحـدي , ونـشــر الآراء والـمـبـادئ
الـتي يحـمـلهــا فـي تـلـك المـعـارك , وفـي مـقـارعـة مـنـتـقـديهــا فـي عـقــر
دارهـم كمـا يـقـال , وبمـراكـز قـوتهـم وبيـن مـؤيــديـهــم»23..
وهـكـذا وبهـذه الروح وبهـذا النفس , دخـل الجعفــري تلك الـمعـارك
فـي بـواكـير حيـاتـه , التي أحتدمـت آنذاك بين مـدرسـتـيـن ومـفـهـومـيـن للـشعـر
والحيـاة. مـدرسـة الشبـاب والتي تضـم فـي صفـوفهـا الـى جانـب الجـواهـري ,
الحبـوبـي، السـودانـي ‹الأبـن›, صالح بحـر العـلـوم , عبد الرزاق محي الديـن ,
إبراهيم الوائلـي وغيرهـم الكـثير . بــيـنـمـا ضـمت مـدرسـة الـشـيــوخ مـن
التـقـلـيـديـن وفي مـقـدمـتهــم الشيخ كاظم السودانـي , الشيخ عبـد الـمـهـدي
مـطـر, الـشـيخ مـهـدي الـحـجـّـار , الشيخ إبـراهيـم أطيمـش وغيرهـم الـكـثيـر..
ففـي مناسبـة زواج أحـد أقـربـاء السيد علـي العـلاق ‹صاحب احـد
الـمجالس الادبيـة ›24, الذي يـعـمـر بالشيـوخ والعلمـاء الأفضـال
أمثـال الشيخ محمـد حسين كاشـف الغـطـاء , الشيخ جـواد الشبـيـبي , السيد رضـا
الهنـدي . والشـيخ إبراهــيم أطـيـمش ‹رحـمـهـم اللـه ›. وكـان الأخـير مـن
الـمـتـّهـمـيـن هـمـسـاً بأن شعـره يـعـود لـلـشيـخ جـواد الـشبـيـبــي . فأنشـدت
لـه قـصيـدة بهـذه الـمناسبـة, قـرأهـا الشيخ محمـد شـريـف ‹ أحد
المـقـرئـيـن نيـابــة ,حــيــنــذاك › جـاء فـي مـطـلعـهـا :
فـهــزت الـقصيـدة الـمجـلـس , وأضطـرب الـحـفـل لجمـال شعـرهـا .
وقـد تعـرضت الـقـصيدة للـشبـاب بقــولــه:
ويــقــول الجـعــفـري ‹ لـم نـكـن مسبــوقــيـن بمـثـل هـذه الـروح
, ولابمـثـل صيـغ المـهاجـمـة هـذه. فـألتـفت لعبـد الرزاق محي الديـن وقـلـت لـه
: يمكـن نحـن الـمـعـنـيـين بالـثعـالـب› !! فــردّ : وهـل يـجـروء ؟ ..
ثـم كان مـن عـلائـم الشـيــخ جـواد فـي مــثـل هـذه الـحالات,
ولـمـا عـرف عـنـه مـن رقـة ورصـد للــنـكـتـة والمـلاحظـة. أن يــدسّ في وسط
قصيدتـه التي يناولهـا للـغير , بـيـتـاً او بـيتـين بغـيـر وزن القصيـدة .
وفعـلاً حـدث ذلك مـع الشيخ إبراهيم . فـعنـدمـا تلاه المـقـرئ , خـرج الوزن ,
وأضطــرب المجلـس بالضحـك لأنكـشــاف الامــر . فـمـا كـان مـن الشيخ إبراهـيـم
إلا أن يضـع رأسـه بين فخـذيـه , وأخـذ ‹ يـقحـقـح › 25 متشـاغـلاً
عـمّــا يـدور بالمجـلـس, ومـا يعـلـو مـن ضحـك .! فـمـا كـان مـن الشيخ حـسن
البهبهــانـي ‹ وهـو مـن الشيــوخ › , ومن باب النـكـايـة بالشيخ إبراهـيـم أن
قـال لــه: ‹ لــقـد ذلّ مـن بالــت عــليــه الـثـعـالــب›26 .
وتجـيء الصـدف , وتكـون مناسبـة عـقـد قـران السيد عـبد الوهـاب
الصـافـي بعد تلك الجلـسـة مباشـرة 27 ,او بفـاصـلـة زمنيـة
قصـيرة . وأن تزدحـم الحفـلـة بالمشـاركـين والحضـور مـن أنصـار الشيـوخ ,
وأصدقـائـه الشـبــاب . الـى جانـب عـدد مـمـيز مـن كـبـار العلمـاء والادبـاء .
فكـانـت المـنـاسـبـة الكـبيرة , والباعث الحقيقـي فـي تأجيج وأحـتدام هـذه
المعـارك ، والـمـسـاجــلات الادبيــة بين الشبــاب والشيـوخ ، بالاصح بين
الجـديـد والقـديـم . وكـانـت المناسبـة كـبيرة بنتـائجـهـا, لانهـا كسـرت شـوكـة
الشيـوخ وتـشاعـرهـم !...
وكـان لابـد للـجـعـفــري فـي مثـل هـذا الجـو المـفـعـم بالفـرح والسـرور.
وللمنـاسبـة نفـسهـا مـن جـهـة أولاً. ولكـونهــا جـاءت عـقـب مناسبـة آل العـلاق
ثانيـاً. مـن أن يسهـم فـي تكـريــم صـديقــه " اللـّـحْ " ثالثـاً.
وبـمـا يعـزز خـطـاهـم نحـو الانـتصـار علــى مـنـاوئـيــهـم , الـذيـن أصبحـوا
يتـربـصـون بهـم المـواقـف ويــكـيـدون لـهـم . فـقـام والـقـى قـصيــدتـه
اللآمــيــة . وقـد عـرف عـن الجـعـفـري بأنـه أول السبـاقــيـن فـي قــراءة
أشـعـارهـم بأنـفسهـم ودون تـوســط الـقــراء 28, ومطلـعهـا يـقــول :
ثـم يـعـرج فـي أبيــات علـى الشيـوخ , وعلـى حـادثـة الشيخ
إبـراهيـم أطيـمـش, ومـا حصـل لـه فـي قصيدتـه , ومـا دار فـي مجلـس العــلاق .
كـمـا أراد ‹ والقـول للجعـفـري › أن يـتحـدث هـؤلاء عـلنــاً وليــقـولــوا أن
‹صـالـحـاً قــالهــا› فـقــال:
فأسـتحـسن الـحضـور الأبيـات , ومنهـم الشيخ محمـد حسين المظفـر
والشيخ حـسن البهـبهـانـي, رغـم كونـهمـا من الشيـوخ . إلا أن الأستحسـان كـان
تـشفـيـاً بالشيخ إبراهـيـم . وكأن ملامحـهـم تـقــول ‹ أجـوك › 29 . ولسـان حالهـم
يـقــول ‹سـلـّط اللـه كـلـب اللـه علـى عـدو اللــه ›, بسبب كـون أطيمـش قـد حـسب
علـى الشيـوخ, إلا أن لـه مـواقـف ‹ وبتـوجيـه مـن الشيخ جـواد الشبيـبـي ›
كـانــت تـمـيــل لـمسـانـدة الــتـجــدد والــشـبـاب ..
أمـا المناسبـة الاخـرى ‹ ومـا أكـثرهـا › التـي كـانـت حافـلـة
بالطـرف والمساجـلات الأدبيـة بين المـدرسـتيـن , تـلك التي حـدثـت فـي وفـاة
الشيخ طـاهــر فـــرج اللـه سنـة 1925م 30 .وفيــهـا الـقـى
الســودانـي‹الاب › قـصيـدة مـيـمـيـة , تـنـاول الشبـاب الـذيـن يـتـشـاعـرون ,
ويجـرون فـي حلـبـات الشعــر ظلـمـاً وعـدوانـاً علــيـه.. وهـم لا يـتجـاوزون فـي
جـريـهــم دبـيــب الـنـمـل .ولــيس فـيهـم إلا مـن هـو بحـاجـة لأن يـدرس
ويـتــعـلــم . فــيــقــول:
وفـي نــفــس الـيـــوم و الـمـنــاسـبـة, يـاتـي الــحـجـّـار
" مــهـــدي " يــهـاجــم هــو أيــضـا فـي قــصيـــدة لــه,
ويـــثــنــي عــلـى نـفـس الــمـوضـوع الــذي أشـار لـــه السـودانـي مـن
قـــبــل , فيـقــول:
وفـي الـيـوم التـالـي يـلـقـي الـجـواهـري قـصـيدتـه البـائـيـة .
ويهـاجـم بـهـا زمـرة الشيـوخ الــتـقـلـيـديـن , هـجـومـاً عـنــيــفـاً ,
ومــعـرّضــاً بالشيـخ مــهـدي الـحـجـّار فـيــقـول :
ثــم يــأتــي دور الجـعــفــري وقـصـيـدتــه الـرائــيــة, الـي
كـانـــت مـن أوائــل شـعـــره . تـعـكــس نـظــرتــه ورسـالــتــه فـي الحـيــاة
. فـمـا كـان لـيـترك المـناسبـة تـمــرّ, دون أن يسـمـع صـوتــه , ودون أن يشـارك
فـي الــرّد عـلـى الــهــجــوم الـذي تـعـرضــت لــه مـفــاهـيـمـه فــيـقـــول :
وتـراه يسـتــعـمــل كـلـمـة ‹ الشـعــب › , وهــو مـا لـم يـكـن
مــتـداولاً علــى نـطـاق واســع فـي حــيـنــه فــيـقـول :
ثــم يـعــرج فـي نـهـايـة قــصـيـدتــه , لـيـقــتـص مـن السـودانـي
الـــذي بـدأهـا حـــربــا شـعــواء عـلـيــه . وعـلـى مـدرسـتــه , فــرد
عـلـيــه وكـال لــه بـنــفـس مـكـيـالــه حـيـن قــال:
الأستـاذ الـدكتـــور أحــمــد فــرج اللــه
فـكـان الـجعـفــري وهـو فـي هــذه الســن , شـاعــراً ذا رأي , يــؤمـن بـه ويـدافــع عــنـه . ثــم لا يــبــالـي أن يـهاجـم من يتعـرض لـه, او يــهـاجــمــه مـهـمــا كـان فـارق الـسـن بــيـنـهـمــا ...
وهـكـذا أرخــت هـذه المـعـارك , نـمـط الـشعـر
والأدب . والـى الـتـوجهـات لـدى الشـعـراء الشبـاب.. والـتي حـمـل رايـتـهـا
الجـعـفــري وأخـوان لـه فـي تلك المرحـلـة . جــراء تـفـتـح أذهـانـهـم علـى
الـتـطـوّر الحاصـل والـتغـيـر النهضـوي فـي مجـال الأدب والشـعـر فـي البلـدان
الـمـحيـطـة بالعــراق .ومـا كـلفـهــم ذلك الجهـد والـعمـل الشـاق , فـي
أقــتـحـام معـاقـل شــيـوخ الشعـر الــقـديـم, ومـواجـهـة المـفاهـيم والصـور
التقــلـيـديـة القــديمـة وحملـهـم عـلى اللـحـاق ومـواكـبــة تـلك الــتـطـورات .
.
No comments:
Post a Comment